الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025

1150 عاما على تأسيس مدينة بطليوس

بقلم عادل النجار

   

كان يحكم قرطبة في ذلك الوقت الأمير محمد بن عبدالرحمن بن الحكم ، خامس أمراء الاندلس ( 823م -886 م) ، والذي قرر  عام 874م وأد الفتنة القائمة في ماردة (Mérida) ، والناتجة عن تمرد عبد الرحمن بن مروان الجليقي ، المؤسس لاحقا لمدينة بطليوس .

لجأ ابن مروان الى قلعة الحنش) Alange (، حيث حاصره جيش قرطبة ثلاثة شهور إلى أن تم التوافق بين الطرفين على أن يُسمح لابن مروان تأسيس بطليوس والتي كانت يومئذ قرية صغيرة مهجورة .

في سنة 875 م  أسس عبد الرحمن بن مروان مدينة بطليوس على ضفاف نهر وادي آنا ( (Rio Guadiana  ، وفي وقت وجيز إستطاع تعميرها وتحويلها إلى مدينة مزدهرة لتكون واحدة من أقوى الممالك في غرب الأندلس .

بعد إستقلالها عن قرطبة في زمن الطوائف ، اتسعت إمارة بطليوس لتشمل المساحة الحالية لمقاطعة إكستريمادورا  والبرتغال معاً،  ووفقًا للمؤرخ الإسباني مانويل تيرّون، فقد بلغت مساحتها حوالي 90,000 كيلومتر مربع. 

وكانت مدينة بطليوس مهدا للحضارة ومزارا للأدباء ومحطة للشعراء ، وبلغت مرحلة متقدمة من الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في زمن المظفر بن الأفطس الذي قال فيه المراكشي : "كان المظفر هذا أحرص الناس على جمع علوم الأدب خاصة من النحو والشعر ونوادر الأخبار وعيون التاريخ، انتخب مَّما اجتمع له من ذلك كتاباً كبيراً ترجمه باسمه . ومن بعده ابنه المتوكِّل على الله بن الأفطس، الذي قال فيه ابن الخطيب: "كان المتوكل مَلِكاً عَالي القدر، مشهور الفضل، مثلاً في الجَّلالة والسّرور، من أهْل الرَّأي  والحَزْم والبَلاغة، وكانت مدينة بطليوس في مُدَّتِه دار أدَب وشعر ونحو وعلم

ولد وعاش فيها أشهر وأبرز الأدباء في ذلك العصر ، منهم ابن السيد البطليوسي ، من كبار أئمة اللغة والأدب في الأندلس ، من شعره في الحكمة هذان البيتان :

أخـو العلـم حيٌّ خالـد بعـد موتـه

وأوصـالُـه تحـت التـراب رَمِـيْمُ

وذو الجهل مَيْتٌ وهو ماشٍ على الثرى

يُظَـنّ مـن الأحيـاء وهـو عـديـم

أيضا ولد فيها أبو الوليد الباجي وكان من أئمة المسلمين في المشرق والمغرب ، 

واستقر فيها العالم الفقيه ابن عبد البر المالكي، القرطبي الأصل، الذي كان أحفظ أهل المغرب .

كذلك ابن عبدون الأديب والشاعر ، كاتب سر المتوكل على الله بن الأفطس سنة 473ه‍ـ ولما سقطت دويلة بطليوس بكاها قائلا :

الدَهرُ يَفجَعُ بَعدَ العَينِ بِالأَثَرِ *** فَما البُكاءُ عَلى الأَشباحِ وَالصُوَرِ

أَنهاكَ أَنهاكَ لا آلوكَ مَوعِظَةً *** عَن نَومَةٍ بَينَ ناب اللَيثِ وَالظُفرِ

فَالدَهرُ حَربٌ وَإِن أَبدى مُسالَمَةً *** وَالبِيضُ وَالسودُ مِثلُ البيضِ وَالسُمرِ


بطليوس اليوم

وقعت على مقربة منها معركة الزلاقة ، من أعظم و أكبر المعارك التي حدثت في تاريخ الأندلس  (رجب 479هـ - أكتوبر 1086م ) ، جرت على سهول الزلاقة ( Sagrajas ) وإستطاع خلالها المسلمون بقيادة يوسف بن تشافين ، ومشاركة المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس ، و المعتمد بن عباد أمير اشبيليه الحاق الهزيمة بألفونسو السادس الذي خرج جريحا مكسورا . كان لهذه المعركة  أثرا كبيرا إذ أوقف زحف ممالك الشمال الإسبانية نحو أراضي الاندلس الجنوبية .

وما زالت قصبة بطليوس التي بناها الموحدون في القرن الثاني عشر ، تطل على نهر وادي آنا ، شاهدة على تاريخ هذه المدينة العريقة . 

قال الوزير أبو عمرو بن الفلاس يمدح بطليوس:

بطَليوس لا انساك ما اتّصل البعدُ

ولله دوحات تحفُّك بينها

فلله غور في جنابك او نجدُ

تفُّجر واديها كما شُقّق البُردُ

فلله غور في جنابك او نجدُ

تفُّجر واديها كما شُقّق البُردُ.

واليوم وبعد خروج المسلمين منها عام 1230 م ، ما زال نهر وادي آنا يجري خلالها موحيا لزائريها تاريخها الماضي ، وما زالت قصبتها تحكي تاريخا مجيدا سطره المسلمون خلال قرون ، وعلى بابها أقاموا تمثالاً لمؤسسها ، عبد الرحمن بن مروان تكريما وتعظيما لهذا القائد الذي اعترف له الجميع بحنكته السياسية والعسكرية.

غاب إسم بطليوس وظهر إسم بداخوث بديلا لهذه المدينة التي أبت أن تنسى جذورها وتاريخها ، ففي كل عام ، وفي شهر سبتمبر تقوم بلدية المدينة بتنظيم  إحتفالات " المؤسسة " Almossassa  ، التي تذكرهم بماضيهم الإسلامي . 

وقد عبر عمدة بداخوث الأسبق ميغل أنخل ثيلدران Miguel Ángel Celdrán عن إعتزاز أهل مدينة بداخوث ( بطليوس ) بالعهد الإسلامي الذي أضفى تاريخا مجيدا ، و عصرا مزدهرا بالحضارة والثقافة الإسلامية .

كما صرح العمدة السابق فرانثيسكو خافيير فراقوسو Francisco Javier Fragoso " أن الإحتفال بماضي المدينة هو إحتفال بحاضرنا  ، ومن كان يريد التعرف على أكبر قصبة إسلامية في إوروبا فعليه أن يزور مدينة بطليوس " . وكثيرا ما وصف قصبة بطليوس بلؤلوة التاج وكنز المدينة .


  إحتفالات المؤسسة التي تحيي ذكرى تأسيس مدينة بطليوس                                                    

كما تم الإحتفال عام 2013 بذكرى ألفية إمارتها الإسلامية خلال زمن الطوائف ، واعلان مملكة بطليوس المستقلة عام 1013 ، واليوم يحتفلون بمرور 1150 عاما على تأسيسها .

غاب المسلمون عن بطليوس قرونا عديدة ، ولكن شاء القدر أن يعود بعضهم للدراسة والعمل فيها خلال ثمانينات القرن الماضي ، حيث بدأ يتوافد على المدينة مجموعة طلابية من الشرق الأوسط لدراسة الطب في جامعة إكستريمادورا ، وبالمشاركة مع العمال القادمين من شمال إفريقيا وغربها ( المغرب والسنغال ) ، تم إفتتاح أول مسجد فيها خلال العصر الحديث ، لتبدأ مرحلة جديدة مبنية على التعايش وحرية الأديان بين اهل المدينة و الوافدين الجدد من المسلمين  .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق