المصدر : موقع الدكتور راغب السرجاني
في الثغر الأدنى من بلاد الأندلس تَكَوَّنت مملكة بَطَلْيُوس؛ وهي مملكة تُمَثِّل بُعْدًا مهمًّا في الصراع بين ممالك الطوائف؛ نظرًا لأهميتها الجغرافية الخاصة؛ فهي من ناحية تقع في الشمال من مملكة إِشْبِيلِيَة، ولا يفصل بينهما إلا سلسلة جبال الشارات أو سييرا مورينا، ومن ناحية أخرى فهي تشمل رقعة واسعة تمتدُّ من غرب مملكة طُلَيْطِلَة عند مثلث وادي يانة، وغربًا حتى المحيط الأطلسي، كما تشمل بَطَلْيُوس (Badajoz) المدينة المهمة من مدن المملكة فهي العاصمة، وتُعَدُّ المنطقة الوسطى للمملكة، إضافة إلى أنها تشمل المنطقة الغربية لبلاد الأندلس؛ أي: تشمل كل دولة البرتغال الحالية تقريبًا، حتى مدينة بَاجَة (beja) في الجنوب، وبالتالي فهي تشمل مدن مهمة؛ مثل: مَارِدَة (Mérida) ولَشْبُونَة (lispon) وشَنْتَرِين (Santarém) وقُلُمْرِيَة (Coimbra)، وغيرها.
مملكة بني الأفطس
ظهرت مملكة بَطَلْيُوس وأحدثت تغييرًا فعليًّا في عصر الطوائف على يد بني مسلمة، أو بني الأفطس على ما هو مشهور في كُتب التاريخ الأندلسي، فقد كانوا سادتها نيفًا وسبعين سنة.
وقصة الدولة تبدأ عند احتدام الفتنة في أواخر عهد الحكم المستنصر بالله، حيث كان يحكم المنطقة الغربية لبلاد الأندلس (البرتغال) فتى يُسَمَّى سابور العامري أو الفارسي؛ أحد صبيان فائق الخادم مولى الحكم المستنصر، وظلَّ حاكمًا على البلاد ثلاث عشرة سنة، فلمَّا اشتدَّت أحداث الفتنة وطمع كل طامع بما تحت يده من البلاد، استبدَّ سابور وأعلن انفصاله واستقلاله، وكان فارسًا شجاعًا، إلا أنه افتقد الخبرة في شئون الحُكم والإدارة وأنواع المعارف، فاستوزر عبد الله بن محمد بن مسلمة الأفطس، ورمى إليه بأمور البلاد، فدبَّر أعماله، فما لبث أن صار الأفطس هو الحاكم الفعلي في البلاد، فلما مات سابور سنة (413هـ=1022م)، ترك ولدين صغيرين لم يبلغا الحلم؛ هما: عبد الملك وعبد العزيز، فأعلن الأفطس استقلاله، واستبدَّ بالأمور من دون الولدين الصغيرين، وضبط أمور مملكته وتلقَّب بالمنصور، وصارت المملكة له ولأعقابه من بعده.
عبد الله بن مسلمة بن الأفطس
عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، أصله من مِكْنَاسة المغربية، من قوم متواضعين غير أنه كان من أهل المعرفة التامَّة، والعقل والدهاء والسياسة؛ لذلك لم يكن غريبًا عليه - وقد دانت له المملكة - أن يعمل على توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتقوية جيشه، وبناء الأسوار بما يضمن له حماية المملكة من أي عدوان خارجي؛ خاصة وأن القدر وضعه بين خصمين لدودين، يتحيَّنان الفرص بين الحين والآخر للانقضاض على خصميهما؛ وهما: بنو عباد في إِشْبِيلِيَة، وبنو ذي النون في طُلَيْطِلَة.
وكان ابن الأفطس يرقب تحرُّكات القاضي أبي القاسم بن عباد بكل حذر وحيطة، خاصة وأن دولة القاضي ابن عباد أضحت في قوة؛ لذلك تزايدت مخاوفه حتى أصبحت حقيقة بمهاجمة ابن عباد مدينة بَاجَة إثر اندلاع الثورة فيها سنة 421هـ، وأُسر فيها محمد بن عبد الله بن الأفطس ثم أُطلق سراحه، ثم عاد الصدام بينهما مرة أخرى سنة (425هـ=1034م)، وكانت الغلبة هذه المرَّة لقوات ابن الأفطس، وكانت محنة شنيعة لبني عباد، ثم توقَّف السجال بين الطرفين بسبب انشغال بني عباد بحروبهم ضد البربر، التي أسفرت عن محنة أشد من سابقتها سنة 431هـ؛ إذ تجمَّع البربر في غَرْنَاطَة وقَرْمُونة ومَالَقَة ضد قوات ابن عباد وهزمته هزيمة منكرة، وقُتل إسماعيل ابن القاضي أبي القاسم بن عباد، على نحو ما سنفصِّله في موضعه إن شاء الله[.
وعلى النحو الآخر كان عبد الله بن الأفطس مشغولاً بالقضاء على ثورة ابني سابور (عبد العزيز وعبد الملك) في لَشْبُونَة؛ إذ طمع عبد العزيز في استرداد مُلْكِ أبيه، فأعلن الثورة في لَشْبُونَة، ولم تَطُلْ ثورته لوفاته، فخلفه من بعده أخوه عبد الملك، ويبدو أنه لم يكن على قدر الكفاءة والسياسة والإدارة، فلم يقنع به أهل لَشْبُونَة؛ فكاتبوا سرًّا ابن الأفطس أن يبعث لهم واليًا من عنده، فسيَّر لهم جيشًا عليه ولده محمد، ودخل المدينة دون مقاومة تُذكر؛ إذ تواطأ أهل البلد ضده مع ابن الأفطس، فلم يفق عبد الملك حتى وجد نفسه محاطًا بالعساكر والجند، فأذعن بالتسليم، وطلب السلامة له ولأهله ولماله، فأُعطي ما طلب، وتركوه يسير حيث يشاء، فترك لَشْبُونَة وقصد قُرْطُبَة، فلما قرب منها استأذن الوزير ابن جهور في الدخول فأذن له، فدخل قُرْطُبَة ونزل بدار أبيه سابور، وظلَّ بها إلى أن مات.
وهكذا ظلَّ عبد الله بن الأفطس يعمل على تقوية دولته وتوسعتها وإحكام السيطرة عليها، إلى أن مات في جمادى الأولى سنة (437هـ=1045م)، وخلفه من بعده ابنه محمد الملقب بالمظفر .